الأربعاء، 20 أغسطس 2008

جدارية (2)



مَنْ أَنتَ ، يا أَنا ؟ في الطريقِ
اثنانِ نَحْنُ ، وفي القيامة واحدٌ .
خُذْني إلى ضوء التلاشي كي أَرى
صَيْرُورتي في صُورَتي الأُخرى . فَمَنْ
سأكون بعدَكَ ، يا أَنا ؟ جَسَدي
ورائي أم أَمامَكَ ؟ مَنْ أَنا يا
أَنت ؟ كَوِّنِّي كما كَوَّنْتُكَ ، ادْهَنِّي
بزيت اللوز ، كَلِّلني بتاج الأرز .
واحملني من الوادي إلى أَبديّةٍ
بيضاءَ . عَلِّمني الحياةَ على طريقتِكَ ،
اختَبِرْني ذَرَّةً في العالم العُلْوِيِّ .
ساعِدْني على ضَجَر الخلود ، وكُنْ
رحيماً حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورودُ …
..
لم تـأت سـاعـتُنا . فـلا رُسُـلٌ يَـقِـيـسُـونَ
الزمانَ بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكةٌ
يزورون المكانَ ليتركَ الشعراءُ ماضِيَهُمْ على الشَّفَق
الجميل ، ويفتحوا غَدَهُمْ بأيديهمْ .
فغنِّي يا إلهتيَ الأثيرةَ ، ياعناةُ ،
قصيدتي الأُولى عن التكوين ثانيةً …
فقد يجدُ الرُّوَاةُ شهادةَ الميلاد
للصفصاف في حَجَرٍ خريفيّ . وقد يجدُ
الرعاةُ البئرَ في أَعماق أُغنية . وقد
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن
المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ
بقافيةٍ ، فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ
يا عناةُ ، أَنا الطريدةُ والسهامُ ،
أَنا الكلامُ . أَنا المؤبِّنُ والمؤذِّنُ
والشهيدُ
..
ما قلتُ للطَّلَلِ : الوداع . فلم أَكُنْ
ما كُنْتُ إلاّ مَرَّةً . ما كُنْتُ إلاّ
مرَّةً تكفي لأَعرف كيف ينكسرُ الزمانُ
كخيمة البدويِّ في ريح الشمال ،
وكيف يَنْفَطِرُ المكانُ ويرتدي الماضي
نُثَارَ المعبد المهجور . يُشبهُني كثيراً
كُلُّ ما حولي ، ولم أُشْبِهْ هنا
شيئاً . كأنَّ الأرض ضَيِّقَةٌ على
المرضى الغنائيِّين ، أَحفادِ الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حُلْماً جميلاً لَقَّنُوا الببغاءَ شِعْر
الحب ، وانفتَحتْ أَمامَهُمُ الحُدُودُ …
..
وأُريدُ أُن أُحيا …
فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة . لا
لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من
دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ
عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة ؟
هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ ؟
ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة … /
أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض ،
انتظرني في بلادِكَ ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
قرب خيمتكَ ، انتظِرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد . يُغْريني
الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ
حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ … /
فيا مَوْتُ ! انتظرني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ ،
حيث وُلدتُ ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني
بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي
سورةُ الرحمن في القرآن . وامشوا
صامتين معي على خطوات أَجدادي
ووقع الناي في أَزلي . ولا
تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ
زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت
الحُبِّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على
التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ
وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ
وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ
الكنائس للكنائس والعرائس /
أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ
حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثيابَ .
هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ؟ وهل
تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء ،
أم تبقى كما هِي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي
لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ
مكتبةً ؟ وما لُغَةُ الحديث هناك ،
دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ
فُصْحى/
..
.. ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموتُ ،
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع
وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا
يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ
مالَكَ من حياتي حين أَملأُها ..
ولي منك التأمُّلُ في الكواكب :
لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ
تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها /
يا موت ! ياظلِّي الذي
سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا
لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ ،
يا دَمَ الطاووس ، يا قَنَّاصَ قلب
الذئب ، يا مَرَض الخيال ! اجلسْ
على الكرسيّ ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ
تحت نافذتي . وعلِّقْ فوق باب البيت
سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ ! لا تُحَدِّقْ
يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ
الضعف الأَخيرةَ . أَنتَ أَقوى من
نظام الطبّ . أَقوى من جهاز
تَنَفُّسي . أَقوى من العَسَلِ القويّ ،
ولَسْتَ محتاجاً - لتقتلني - إلى مَرَضي .
فكُنْ أَسْمَى من الحشرات . كُنْ مَنْ
أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب .
كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا
تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في
الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ
الثعالب . كُنْ
فروسياً ، بهياً ، كامل الضربات . قُلْ
ماشئْتَ : (( من معنى إلى معنى
أَجيءُ . هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا
أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني )) .. /
ويامَوْتُ انتظرْ ، واجلس على
الكرسيّ . خُذْ كأسَ النبيذ ، ولا
تفاوِضْني ، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ
إنسانٍ ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ
الغيبِ . استرح … فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أَنا
لتزورني ؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ
شأنَكَ . أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في
البشريِّ ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ /
هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد
الرافدين . مِسَلَّةُ المصريّ ، مقبرةُ الفراعنةِ ،
النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
وانتصرتْ ، وأِفْلَتَ من كمائنك
الخُلُودُ …
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ
..
وأَنا أُريدُ ، أريدُ أَن أَحيا …
فلي عَمَلٌ على جغرافيا البركان .
من أَيام لوط إلى قيامة هيروشيما
واليبابُ هو اليبابُ . كأنني أَحيا
هنا أَبداً ، وبي شَبَقٌ إلى ما لست
أَعرف . قد يكون ” الآن ” أَبعَدَ .
قد يكونُ الأمس أَقربَ . والغَدُ الماضي .
ولكني أَشدُّ ” الآن ” من يَدِهِ ليعبُرَ
قربيَ التاريخُ ، لا الزَّمَنُ المُدَوَّرُ ،
مثل فوضى الماعز الجبليِّ . هل
أنجو غداً من سرعة الوقت الإلكترونيّ ،
أَم أَنجو غداً من بُطْء قافلتي
على الصحراء؟ لي عَمَلٌ لآخرتي
كأني لن أَعيش غداً. ولي عَمَلٌ ليومٍ
حاضرٍ أَبداً . لذا أُصغي ، على مَهَلٍ
على مَهَل ، لصوت النمل في قلبي :
أعينوني على جَلَدي . وأَسمع صَرْخَةَ
الحَجَر الأسيرةَ : حَرِّروا جسدي . وأُبصرُ
في الكمنجة هجرةَ الأشواق من بَلَدٍ
تُرَابيّ إلى بَلَدٍ سماويّ . وأَقبضُ في
يد الأُنثى على أَبَدِي الأليفِ : خُلِقتُ
ثم عَشِقْتُ ، ثم زهقت ، ثم أَفقتُ
في عُشْبٍ على قبري يدلُّ عليَّ من
حينٍ إلى حينٍ . فما نَفْعُ الربيع
السمح إن لم يُؤْنِس الموتى ويُكْمِلْ
بعدهُمْ فَرَحَ الحياةِ ونَضْرةَ النسيان ؟
تلك طريقةٌ في فكِّ لغز الشعرِ ،
شعري العاطفيّ على الأَقلِّ . وما
المنامُ سوى طريقنا الوحيدة في الكلام /
وأَيُّها الموتُ التَبِسْ واجلسْ
على بلَّوْرِ أَيامي ، كأنَّكَ واحدٌ من
أَصدقائي الدائمين ، كأنَّكَ المنفيُّ بين
الكائنات . ووحدك المنفيُّ . لا تحيا
حياتَكَ . ما حياتُكَ غير موتي . لا
تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفالَ
من عَطَشِ الحليب إلى الحليب . ولم
تكن طفلاً تهزُّ له الحساسينُ السريرَ ،
ولم يداعِبْكَ الملائكةُ الصغارُ ولا
قُرونُ الأيِّل الساهي ، كما فَعَلَتْ لنا
نحن الضيوفَ على الفراشة . وحدك
المنفيُّ ، يا مسكين ، لا امرأةٌ تَضُمُّك
بين نهديها ، ولا امرأةٌ تقاسِمُك
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحيِّ
المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
ولم تَلِدْ وَلَداً يجيئك ضارعاً : أَبتي ،
أُحبُّكَ . وحدك المنفيُّ ، يا مَلِكَ
الملوك ، ولا مديحَ لصولجانكَ . لا
صُقُورَ على حصانك . لا لآلئَ حول
تاجك . أَيُّها العاري من الرايات
والبُوق المُقَدَّسِ ! كيف تمشي هكذا
من دون حُرَّاسٍ وجَوْقَةِ منشدين ،
كَمِشْيَة اللصِّ الجبان . وأَنتَ مَنْ
أَنتَ ، المُعَظَّمُ ، عاهلُ الموتى ، القويُّ ،
وقائدُ الجيش الأَشوريِّ العنيدُ
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ
..
وأَنا أُريدُ ، أُريد أَن أَحيا ، وأَن
أَنساك …. أَن أَنسى علاقتنا الطويلة
لا لشيءٍ ، بل لأَقرأ ما تُدَوِّنُهُ
السماواتُ البعيدةُ من رسائلَ . كُلَّما
أَعددتُ نفسي لا نتظار قدومِكَ
ازددتَ ابتعاداً . كلما قلتُ : ابتعدْ
عني لأُكمل دَوْرَةَ الجَسَدَيْنِ ، في جَسَدٍ
يفيضُ ، ظهرتَ ما بيني وبيني
ساخراً : ” لا تَنْسَ مَوْعِدَنا … ”
- متى ؟ - في ذِرْوَة النسيان
حين تُصَدِّقُ الدنيا وتعبُدُ خاشعاً
خَشَبَ الهياكل والرسومَ على جدار الكهف ،
حيث تقول : ” آثاري أَنا وأَنا ابنُ نفسي ” . - أَين موعدُنا ؟
أَتأذن لي بأن أَختار مقهىً عند
باب البحر ؟ - لا …. لا تَقْتَرِبْ
يا ابنَ الخطيئةِ ، يا ابن آدمَ من
حدود الله ! لم تُولَدْ لتسأل ، بل
لتعمل …. - كُن صديقاً طَيِّباً يا
موت ! كُنْ معنىً ثقافياً لأُدرك
كُنْهَ حكمتِكَ الخبيئةِ ! رُبَّما أَسْرَعْتَ
في تعليم قابيلَ الرمايةَ . رُبَّما
أَبطأتَ في تدريب أَيُّوبٍ على
الصبر الطويل . وربما أَسْرَجْتَ لي
فَرَسا ً لتقتُلَني على فَرَسي . كأني
عندما أَتذكَّرُ النسيانَ تُنقِذُ حاضري
لُغَتي . كأني حاضرٌ أَبداً . كأني
طائر أَبداً . كأني مُذْ عرفتُكَ
أَدمنتْ لُغَتي هَشَاشَتَها على عرباتك
البيضاءِ ، أَعلى من غيوم النوم ،
أَعلى عندما يتحرَّرُ الإحساس من عبء
العناصر كُلّها . فأنا وأَنتَ على طريق
الله صوفيَّانِ محكومان بالرؤيا ولا يَرَيَان /
عُدْ يا مَوْتُ وحدَكَ سالماً ،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك . وَعُدْ إلى منفاك
وحدك . عُدْ إلى أدوات صيدك ،
وانتظرني عند باب البحر . هَيِّئ لي
نبيذاً أَحمراً للاحتفال بعودتي لِعِيادَةِ
الأرضِ المريضة . لا تكن فظّا ً غليظ
القلب ! لن آتي لأَسخر منك ، أَو
أَمشي على ماء البُحَيْرَة في شمال
الروح . لكنِّي - وقد أَغويتَني - أَهملتُ
خاتمةَ القصيدةِ : لم أَزفَّ إلى أَبي
أُمِّي على فَرَسي . تركتُ الباب مفتوحاً
لأندلُسِ الغنائيِّين ، واخترتُ الوقوفَ
على سياج اللوز والرُمَّان ، أَنفُضُ
عن عباءة جدِّيَ العالي خُيُوطَ
العنكبوت . وكان جَيْشٌ أَجنبيٌّ يعبر
الطُرُقَ القديمةَ ذاتها ، ويَقِيسُ أَبعادَ
الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها … /
..
يا موت ، هل هذا هو التاريخُ ،
صِنْوُكَ أَو عَدُوُّك ، صاعداً ما بين
هاويتين ؟ قد تبني الحمامة عُشَّها
وتبيضُ في خُوَذ الحديد . وربما ينمو
نباتُ الشِّيحِ في عَجَلاتِ مَرْكَبَةٍ مُحَطَّمةٍ .
فماذا يفعل التاريخُ ، صنوُكَ أو عَدُوُّكَ ،
بالطبيعة عندما تتزوَّجُ الأرضَ السماءُ
وتذرفُ المَطَرَ المُقَدَّسَ ؟ /
..
أَيها الموت ، انتظرني عند باب
البحر في مقهى الرومانسيِّين . لم
أَرجِعْ وقد طاشَتْ سهامُكَ مَرَّةً
إلاّ لأُودِعَ داخلي في خارجي ،
وأُوزِّعَ القمح الذي امتلأتْ به رُوحي
على الشحرور حطَّ على يديَّ وكاهلي ،
وأُودِّعَ الأرضَ التي تمتصُّني ملحاً ، وتنثرني
حشيشاً للحصان وللغزالة . فانتظرني
ريثما أُنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان ،
ولا تُصَدِّقْني أَعودُ ولا أَعودُ
وأَقول : شكراً للحياة !
ولم أكن حَيّاً ولا مَيْتاً
ووحدك ، كنتَ وحدك ، يا وحيدُ !
..
تقولُ مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
كثيراً ، وتصرخُ : يا قلبُ !
يا قَلْبُ ! خُذْني
إلى دَوْرَة الماءِ …/
..
ما قيمةُ الروح إن كان جسمي
مريضاً ، ولا يستطيعُ القيامَ
بواجبه الأوليِّ ؟
فيا قلبُ ، يا قلبُ أَرجعْ خُطَايَ
إليَّ ، لأَمشي إلى دورة الماء
وحدي !
..
نسيتُ ذراعيَّ ، ساقيَّ ، والركبتين
وتُفَّاحةَ الجاذبيَّةْ
نسيتُ وظيفةَ قلبي
وبستانَ حوَّاءَ في أَوَّل الأبديَّةْ
نسيتُ وظيفةَ عضوي الصغير
نسيتُ التنفُّسَ من رئتيّ .
نسيتُ الكلام
أَخاف على لغتي
فاتركوا كُلَّّ شيء على حالِهِ
وأَعيدوا الحياة إلى لُغَتي !..
..
تقول مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
كثيراً ، وتصرخ بي قائلا ً :
لا أُريدُ الرجوعَ إلى أَحَدِ
لا أُريدُ الرجوعَ إلى بلدِ
بعد هذا الغياب ألطويل …
أُريدُ الرجوعَ فَقَطْ
إلى لغتي في أقاصي الهديل
..
تقولُ مُمَرِّضتي :
كُنْتَ تهذي طويلا ً ، وتسألني :
هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ
أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ ؟
..
خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةٌ …
على مَهَلٍ أُدوِّنُها ، على مَهَلٍ ، على
وزن النوارس في كتاب الماءِ . أَكتُبُها
وأُورِثُها لمنْ يتساءلون : لمنْ نُغَنِّي
حين تنتشرُ المُلُوحَةُ في الندى ؟ …
خضراءُ ، أكتُبُها على نَثْرِ السنابل في
كتاب الحقلِ ، قَوَّسَها امتلاءٌ شاحبٌ
فيها وفيَّ . وكُلَّما صادَقْتُ أَو
آخَيْتُ سُنْبُلةً تَعَلَّمْتُ البقاءَ من
الفَنَاء وضدَّه : (( أَنا حَبَّةُ القمح
التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً . وفي
موتي حياةٌ ما … ))
..
كأني لا كأنّي
لم يمت أَحَدٌ هناك نيابةً عني .
فماذا يحفظُ الموتى من الكلمات غيرَ
الشُّكْرِ : ” إنَّ الله يرحَمُنا ” …
ويُؤْنِسُني تذكُّرُ ما نَسِيتُ مِنَ
البلاغة : ” لم أَلِدْ وَلَدا ً ليحمل مَوْتَ
والِدِهِ ” …
وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَدات ….
سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذَّّكَر المُلائِمِ
في جُنُوح الشعر نحو النثر ….
سوف تشُّبُّ أَعضائي على جُمَّيزَةٍ ،
ويصُبُّ قلبي ماءَهُ الأَرضيَّ في
أَحَدِ الكواكب … مَنْ أَنا في الموت
بعدي ؟ مَنْ أَنا في الموت قبلي
قال طيفٌ هامشيٌّ : (( كان أوزيريسُ
مثْلَكَ ، كان مثلي . وابنُ مَرْيَمَ
كان مثلَكَ ، كان مثلي . بَيْدَ أَنَّ
الجُرْحَ في الوقت المناسب يُوجِعُ
العَدَمَ المريضَ ، ويَرْفَعُ الموتَ المؤقَّّتَ
فكرةً … )).
من أَين تأتي الشاعريَّةُ ؟ من
ذكاء القلب ، أَمْ من فِطْرة الإحساس
بالمجهول ؟ أَمْ من وردةٍ حمراءَ
في الصحراء ؟ لا الشخصيُّ شخصيُّ
ولا الكونيُّ كونيٌّ …
..
كأني لا كأني …/
كلما أَصغيتُ للقلب امتلأتُ
بما يقول الغَيْبُ ، وارتفعتْ بِيَ
الأشجارُ . من حُلْم إلى حُلْمٍ
أَطيرُ وليس لي هَدَفٌ أَخيرٌ .
كُنْتُ أُولَدُ منذ آلاف السنين
الشاعريَّةِ في ظلامٍ أَبيض الكتّان
لم أَعرف تماماً مَنْ أَنا فينا ومن
حُلْمي . أَنا حُلْمي
كأني لا كأني …
لم تَكُنْ لُغَتي تُودِّعُ نَبْرها الرعويَّ
إلاّ في الرحيل إلى الشمال . كلابُنا
هَدَأَتْ . وماعِزُنا توشَّح بالضباب على
التلال . وشجَّ سَهْمٌ طائش وَجْهَ
اليقين . تعبتُ من لغتي تقول ولا
تقولُ على ظهور الخيل ماذا يصنعُ
الماضي بأيَّامِ امرئ القيس المُوَزَّعِ
بين قافيةٍ وقَيْصَرَ …/
كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ آلهتي ،
هنالك ، في بلاد الأرجوان أَضاءني
قَمَرٌ تُطَوِّقُهُ عناةُ ، عناةُ سيِّدَةُ
الكِنايةِ في الحكايةِ . لم تكن تبكي على
أَحَدِ ، ولكنْ من مَفَاتِنِها بَكَتْ :
هَلْ كُلُّ هذا السحرِ لي وحدي
أَما من شاعرٍ عندي
يُقَاسِمُني فَرَاغَ التَخْتِ في مجدي ؟
ويقطفُ من سياج أُنوثتي
ما فاض من وردي ؟
أَما من شاعر يُغْوي
حليبَ الليل في نهدي ؟
أَنا الأولى
أَنا الأخرى
وحدِّي زاد عن حدِّي
وبعدي تركُضُ الغِزلانُ في الكلمات
لا قبلي … ولا بعدي /
..
سأحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها / المكيدةَ
في سياق الواقعيّ . وليس في وُسْعِ القصيدة
أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
لكني سأحلُمُ ،
رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي ، كما أَنا
واحداً من أَهل هذا البحر ،
كفَّ عن السؤال الصعب : (( مَنْ أَنا ؟ …
هاهنا ؟ أَأَنا ابنُ أُمي ؟ ))
لا تساوِرُني الشكوكُ ولا يحاصرني
الرعاةُ أو الملوكُ . وحاضري كغدي معي .
ومعي مُفَكِّرتي الصغيرةُ : كُلَّما حَكَّ
السحابةَ طائرٌ دَوَّنتُ : فَكَّ الحُلْمُ
أَجنحتي . أنا أَيضاً أطيرُ . فَكُلُّ
حيّ طائرٌ . وأَنا أَنا ، لا شيءَ
آخَرَ /
..
واحدٌ من أَهل هذا السهل …
في عيد الشعير أَزورُ أطلالي
البهيَّة مثل وَشْم في الهُوِيَّةِ .
لا تبدِّدُها الرياحُ ولا تُؤبِّدُها … /
وفي عيد الكروم أَعُبُّ كأساً
من نبيذ الباعة المتجوِّلينَ … خفيفةٌ
روحي ، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان /
وفي الربيع ، أكونُ خاطرةً لسائحةٍ
ستكتُبُ في بطاقات البريد : (( على
يسار المسرح المهجور سَوْسَنَةٌ وشَخْصٌ
غامضٌ . وعلى اليمين مدينةٌ عصريَّةٌ )) /
..
وأَنا أَنا ، لا شيء آخَرَ …
لَسْتُ من أَتباع روما الساهرينَ
على دروب الملحِ . لكنِّي أسَدِّدُ نِسْبَةً
مئويَّةً من ملح خبزي مُرْغَماً ، وأَقول
للتاريخ : زَيِّنْ شاحناتِكَ بالعبيد وبالملوك الصاغرينَ ، ومُرَّ
… لا أَحَدٌ يقول
الآن : لا .
..
وأَنا أَنا ، لا شيء آخر
واحدٌ من أَهل هذا الليل . أَحلُمُ
بالصعود على حصاني فَوْقَ ، فَوْقَ …
لأَتبع اليُنْبُوعَ خلف التلِّ
فاصمُدْ يا حصاني . لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ

أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ . فانتصِبْ
أَلِفاً ، وصُكَّ البرقَ . حُكَّ بحافر
الشهوات أَوعيةَ الصَدَى . واصعَدْ ،
تَجَدَّدْ ، وانتصبْ أَلفاً ، توتَّرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفا ً ، ولا تسقُطْ
عن السفح الأَخير كرايةٍ مهجورةٍ في
الأَبجديَّة . لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ ،
أَنت تَعِلَّتي وأَنا مجازُكَ خارج الركب
المُرَوَّضِ كالمصائرِ . فاندفِعْ واحفُرْ زماني
في مكاني يا حصاني . فالمكانُ هُوَ
الطريق ، ولا طريقَ على الطريق سواكَ
تنتعلُ الرياحَ . أَُضئْ نُجوماً في السراب !
أَضئْ غيوماً في الغياب ، وكُنْ أَخي
ودليلَ برقي يا حصاني . لا تَمُتْ
قبلي ولا بعدي عَلى السفح الأخير
ولا معي . حَدِّقْ إلى سيَّارة الإسعافِ
والموتى … لعلِّي لم أَزل حيّاً /

ليست هناك تعليقات: